هل يمكن التمييز بين الإحساس و الإدراك ؟


اسئلة متوقعة:
هل نحس ثم ندرك  ؟   
هل يوجد فارق زمني بين لحظة الإحساس و لحظة الإدراك .؟  

هل نحس وندرك في آن واحد ؟ 
هل يمكن التمييز بين الإحساس و الإدراك    ؟                                                                                                                                                                         

المقدمة :
يراد بالإدراك حسب ( أندري لالاند ) انه تأويل عقلي لجملة الإحساسات المنقولة عن العالم الخارجي , و يراد بالإحساس دلك الأثر الذي يحدث على مستوى العضوية , أي الإدراك هو معرفة بينما الإحساس هو مجرد انفعال , هدا التباين من ناحية المفهوم جعل رواد مدارس علم النفس الكلاسيكية يؤمنون بوجود فارق زمني بين لحظة الانفعال ولحظة المعرفة ,أي يمكن التمييز بين الإحساس و الإدراك . لكن أكدت مدارس علم النفس الحديث  أن الموضوع المدرك يفرض نفسه على الذات المدركة  ولا يمكن الفصل لان قيمة الإنسان تكمن في التكامل .لدا هل من صواب بين الاعتقادين ؟ و هل نحن نحس ثم ندرك ؟أم ندرك و نحس في آن واحد ؟ بل هل يصدق الطرح القائل بوجود فارق زمني بين لحظة الانفعال و لحظة المعرفة ؟   



التوسيع:
1 -    القضية (نحس ثم ندرك  -   يوجد فارق زمني بين لحظة الإحساس ولحظة الإدراك  -  يمكن التمييز بين الإحساس و الإدراك  )

قد يختلف رواد المدرسة العقلية مع الحسيين من ناحية إقرار الأسبقية  بين الإحساس و الإدراك أو في القول أن الإدراك حكم عقلي أم انه معطى حسي لكن يتفقون  في الفكرة الجوهرية المتمثلة في أن الإحساس إحساس والإدراك إدراك .أي يوجد فارق زمني بين لحظة الانفعال ولحظة المعرفة . فالعقلين امنوا بعدم قدرة الحواس على بناء الصدق المعرفي والإدراك هو تأويل وتصحيح العقل لجملة المعطيات المنقولة عن العالم الخارجي  .والتجريبيون اعتبروا العقل انه غرفة مظلمة يصلها النور عن الحواس كونها نوافذ مطلة على الوجود.
2 – البرهنة  - 
-   أكد المفكر الفرنسي روني ديكارت أن الإدراك هو أحكام يضيفها العقل على الإحساسات التي تسجلها لنا الحواس ,فالإدراك معرفة و الإحساس ليس معرفة , فنحن نسمع صوتا وهذا إحساس خالص لكن عندما نؤوله نقول انه صوت فلان ,فالطفل يمتلك إحساسا عن طريق الأعضاء الحسية لكنه عاجز عن الإدراك لغياب كفاءة التأويل العقلي  ,فهو يحس لكن لا يفهم ما يحس به ,  لذا يقول ديكارت (إننا نحس ثم ندرك )   ويقول أيضا   (الإدراك حكم عقلي )  هذا يعني أن الحواس لها دور في بناء المعرفة لكن لا قيمة  لها في غياب التوجيه العقلي كونها معرضة للخطأ  . وجدت الحواس تخدعني ومن يخدعني مرة لا أثق فيه أبدا   (ديكارت )
- ألان  أشار أن الإدراك  معرفة لأنه ناتج عن حكم عقلي  بينما الإحساسات الخالصة لا تحمل أية دلالة  (هذا الأفق البعيد لا أراه بعيدا بل احكم عليه  بالبعد )  كما يدعونا ألان المفكر الفرنسي إلى تأمل المكعب  فالحواس تصور ه لنا على انه ثلاثة أوجه و ستة أضلع لكن يتم الحكم عليه انه مكعب  , فالخطأ هو خطا الحواس و التصحيح هو تصحيح العقل ,وفي ذلك يقول (الشيء يعقل ولا يحس به ) 
- اكد ليبنتز المفكر الألماني أن الأفكار الموجودة في الروح لا يمكن أن تكون ماخودة عن الحواس  وإلا كانت الروح مادة و الروح ليست مادة   -------         وكدعم لفكرة الفصل بين الإحساس و الإدراك  نجد من جهة  ثانية رواد المدرسة الحسية يؤكدون أن الإحساس هو المادة الأولية لكل عملية إدراكية .
-  حيث رفض المفكر الانجليزي    ( جون لوك  )    إن يوجد الشيء في الذهن ما لم يوجد في الحس ,و تقتصر وظيفة العقل في تسجيل ما تنقله الحواس  انطلاقا من أنها أول نافذة على العالم الخارجي  فالطفل يولد صفحة بيضاء تلعب الحواس و التجارب  دورا في امتلاكه المعرفة ,  أي انه لا يدرك فكرة العدد إلا إذا ارتبط  بشيء معين   .  نفس الشيء أشار إليه  (دافيد هيوم )   لا وجود لشيء في الذهن ما لم يوجد في الحس .  كذلك اكد (كوندياك ) انه ليس هناك شيء في الإدراك لم يمر بالإحساس .
هذا الطرح وجد قديما عند (ابيقور )إن المعنى الكلي يحدث نتيجة تكرار الإحساس  , ويقول (الرواقيون ) إن العقل وعاء فارغ تملؤه جملة الإحساسات المنقولة عن العالم الخارجي .
- استنتاج جزئي : إذن نحس ثم ندرك -  يوجد فارق زمني بين لحظة الإحساس و لحظة الإدراك   .
-النقد  على الرغم من أهمية  طرح رواد مدارس علم النفس الكلاسيكية إلا انه لا يمكن التصديق بما ذهبوا إليه فالحقيقة أن الموضوع المدرك يفرض نفسه على الذات ككل لا على الحواس دون العقل ,فما يؤخذ على طرح العقليين أنهم قدسو العقل وحطموا الحواس بينما الخطأ يعود إلى الإرادة في الخطأ و لا دخل للحواس في ذلك (مالبرانش) .وما يؤخذ على طرح الحسيين أنهم اعتبروا العقل مجرد جهاز استقبال عرضي  .
-نقيض القضية    (نحن نحس و ندرك في آن واحد – الإحساس والإدراك متصلان – لا يوجد فارق زمني بين لحظة الانفعال و لحظة المعرفة )
-  يرى رواد مدارس علم النفس الحديث انه لا وجود لفارق زمني بين لحظة الإحساس و لحظة الإدراك بل الإنسان يحس ويدرك في آن واحد و من ذلك يستحيل التمييز بين كلاهما , الإدراك ليس عملية تركيب وتصحيح بل هو جملة إحساسات  تحددها خاصية الشكل و الصورة  وقوانين تنظيم الأشياء .
البرهنة :
أكد الجرجاني أن الإحساس هو إدراك الشيء بإحدى الحواس ,فإذا كان الإحساس بالحس الظاهر هو المشاهدات فان الإحساس بالحس الباطن هو الوجدان (الشعور) هذا يعني أن الموضوع يترك انطباعا على الذات في الوقت الذي يحدت انفعالا على العضو الحاس 
-        ويقول ( التهناوي ) أن الإحساس هو قسم من الإدراك أي هو إدراك الشيء بالحواس الظاهرة .
-        المدرسة الجشطالتية :  تؤكد نظرية الصورة في ألمانيا أن الإنسان من مجرد إحساسه بالشيء فانه يدركه مما ينفي دور الذاكرة في عملية الإدراك , فالموضوع المدرك يفرض نفسه على الذات المدركة انطلاقا من قوانين الانتظام في الشكل و الأرضية ,فالعالم ليس غامضا لدرجة انه يفهم فقط بالعقل ,بل النظام موجود في الموضوعات التي تنقلها الحواس فيكون كل إحساس إدراك , فإذا نظرنا إلى مجموعة من النقط فإننا ندرك بالتقارب أنها على استقامة واحدة , أما إذا قمنا بإزالة نقطة بعد كل نقطتين فإننا ندرك بالتشابه مجموعة من النقط مثنى مثنى , كذلك النقص الموجود في الطبيعة يجعل العقل قادرا على سد الثغرات , كما أن المواضيع البارزة في العالم الخارجي تجعل الفرد يدركها قبل غيرها (التوأم وسط الساحة –مئذنة المسجد في قرية صغيرة ) كما أن رؤية نقطة مضيئة صغيرة في الظلام إدراك و ليس فقط إحساس  لأننا نراها كشكل موضوعي خارجي له بعد معين و موجود على مسافة منا  حيث يقول (بول غيوم )-  بقدر ما يختلف لون الشيء الذي ندركه عن الأشياء المحيطة به يكون إدراكه أوضح و أتم -  فالشيء الأسود الموضوع على مساحة بيضاء  يدرك بسهولة بينما يصعب إدراكه لو وضع على مساحة سوداء .
-        يؤكد (ميرلوبونتي )نموذج النظرية الظواهرية  أن الرؤية تعني وجود ألوان و أضواء ,و اللون ليس صفة للذات بل صفة للشيء الموجود في العالم الخارجي و بذلك فان الأشياء ليست إحساسات بل محسوسان ,نفس الأمر ذهب إليه (وليام جيمس)
-        لا يحس الإنسان الراشد بالأشياء بل يدركها -  وهذا يعني التكامل بين الإحساس و الإدراك كما أشار كذلك (ادموند هسرل) 
-        استنتاج جزئي  : إذن نحس و ندرك في آن واحد .
النقد:على الرغم من أهمية طرح رواد مدارس علم النفس الحديث إلا انه لا يمكن التصديق المطلق بما ذهبوا إليه لأنه لو آمنا بالاتصال المطلق لماذا نسمي الإدراك إدراكا ونسمي الإحساس إحساسا ؟, ويمكن أن يوجد اتصال عند الإنسان الراشد  ويستحيل أن يكون عند الطفل لأنه يمتلك الإحساس ولا يمتلك الإدراك .
                  
التركيب :
-        من خلال ما تقدم يتبين لنا انه يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك في حالة النظر إلى العلاقة من زاوية علم النفس الكلاسيكي كما يمكن الإيمان بالتكامل إذا كانت النظرة من زاوية علم النفس الحديث والمعاصر  ,وقد يتجلى الاتصال في حالة الانسجام بين الشكل والأرضية فيصبح الموضوع المدرك موجودا بالقوة في الذات المدركة  ,أما في حالة الغموض فيحصل الانفصال  حيث يعتمد العقل كفاءة الذكاء والتخيل ويتخلى  عن المعطيات الحسية .
الخاتمة :
          ختاما يمكن التأكيد أن القول بالإحساس الخالص هو قول ميتافيزيقي لا مبرر له في الواقع .كذلك الاعتقاد بفكرة الإدراك المحض يعني تقديس العقل ,لذا يمكن الإيمان بوجود فارق زمني بين لحظة الإحساس ولحظة الإدراك , وحتى أن كان هذا الفارق ضئيل جدا إلا انه موجود , ومن الناحية المعرفية فانه لا يمكن أن ندرك  دون أن نحس  وكل محاولة من الإنسان من اجل فهم العالم الخارجي تقتضي توظيف المعطيات الحسية  والملكات الذهنية , أليس هذا معناه صعوبة الفصل بين الإحساس والإدراك ؟ لكن ليس مهما التمييز أو عدم التمييز بل الأهم من ذلك هو محاولة الكشف عن أسرار الوجود الذي وجد الإنسان جزءا منه  .   


ليست هناك تعليقات